• الوحدة الترابية، بلاد القبائل وخطاب الانقسام
• الوحدة الترابية، بلاد القبائل وخطاب الانقسام.
السيد البروفيسور
في الآونة الأخيرة، عاد إلى الواجهة خطاب يدعو إلى فصل منطقة القبائل عن أرض الجزائر، خطاب يتغذّى على توترات داخلية ويستثمر في سياق فرنسي أوروبي دولي مضطرب، حيث تتكثّف مشاريع التفكيك في أكثر من منطقة بالعالم العربي والإفريقي.
لماذا فرنسا الاستعمارية تهتم اليوم بمشروع تقسيم الجزائر؟
يسجّل التاريخ أنّ الجزائر واجهت الاستعمار الفرنسي لأكثر من مئة وثلاثين عاما، ثم استمرّ النفوذ الفرنسي اقتصاديا وسياسيا بعد الاستقلال، عبر التحكّم في الموارد واستغلال الثروات الطبيعية، وفي مقدّمتها النفط والغاز.
اليوم، تظهر أطراف خارجية، وعلى رأسها فرنسا، لا تكتفي بالهيمنة الاقتصادية، وإنما تتحرّك في اتجاه تفكيك الدولة الجزائرية سياسيا، عبر إذكاء مشاريع انقسامية تدار بوسائل ناعمة وخطابات تحريضية.
لماذا في هذا التوقيت بالذات؟
المرحلة الراهنة تشهد سباقا محموما على الطاقة والثروات الطبيعية، والجزائر تعدّ فاعلا محوريا في سوق الغاز والبترول. هذا المعطى يضعها في قلب الحسابات الجيوسياسية، ويجعل وحدة الجزائر الترابية، هدفا لمحاولات الضغط غير المباشر، عبر دعم النزعات الانفصالية وإعادة إحياء خطوط الصدع الهويّاتية.
فمن المستفيد من الانقسام؟
الخطاب الانفصالي يتماهى مع مصالح فرنسا، بوصفها الواجهة الأولى لمشاريع تفكيك الدولة الوطنية الجزائرية إلى كيانات أصغر، قابلة للإخضاع الاقتصادي والتطويع السياسي. في هذا الإطار، يروّج لفكرة فصل الشمال عن الجنوب، وعزل مناطق بعينها، بما يخدم التحكّم في الموارد وطرق إدارتها، وصولا إلى الاستيلاء على الأرض ذاتها.
المساندة الفعلية لمشاريع التفكيك لا تنبع من المجتمع الجزائري ككل، ولكن من طائفة محدودة داخل بلاد القبائل.
من المعروف أن منطقة القبائل تشارك في إدارة بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية في الجزائر، بما فيها شركات البترول والغاز الواقعة في صحراءها، وهي قطاعات استراتيجية تمثل شريان الاقتصاد الوطني. وهم من سيساعدونهم في تحقيق تقسيم الأرض، إذ كان الكثير منهم قديما متواطئين مع الاستعمار الفرنسي. بصفتهم وسيط وأداة لتنفيذ سياسات فرنسا الاستعمارية، تحت دور "القايد" أو الحركي بين المستعمر والمجتمع المحلي.
هل الأجداد مسؤولون عمّا يُطرح اليوم؟
الجواب: لا.
منطقة القبائل شكّلت عبر التاريخ ركيزة من ركائز الحركة الوطنية الجزائرية. أبناؤها الأوّلون شاركوا في المقاومة، وفي الثورة التحريرية، وفي بناء الدولة بعد الاستقلال. التاريخ يشهد أن أجداد القبائل لم يكونوا خونة، حملوا السلاح دفاعا عن أرض الجزائر والكرامة، ولم يسجّل عنهم مشروع انفصال أو خيانة جماعية وذرّيتهم إلى اليوم جزء من النسيج الوطني.
غير أن بعض رموز الخطاب الانفصالي المعاصر، ومنهم فرحات مهني، يحاولون التلاعب بالأرشيف التاريخي، وادّعاء تمثيل النضال الوطني، عبر انتقاء وقائع مبتورة، وإعادة تركيبها خارج سياقها، وهو ما يشكّل تزويرا للتاريخ وتلاعبا بذاكرة الثورة.
فقد عرفت مناطق بلاد القبائل، مثل غيرها من مناطق الجزائر، وجود بعض من جماعات يهود الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، لا شرف لديهم ولا انتماء لهم، فهم دخلاء على البلاد. هذا الاستعمار الفرنسي اعتمد كغيره من القوى الاستعمارية، على سياسة الاختراق غير المباشر بعد حملاته العسكرية الدموية التي خلّفت آلاف الضحايا من الجزائريين، فأسكنت هؤلاء الدخلاء عديمي الشرف في هذه المناطق كمستوطنين أوروبيين، وبالتالي تعلّموا اللغة المحلية واندمجوا في الحياة اليومية، ليكونوا بمثابة “الأيادي والعيون” داخل المناطق الحسّاسة، لضمان السيطرة، وجمع المعلومات، وتفكيك البنية الداخلية للمجتمع. وهم من سمحوا بالوجود العثماني في الجزائر.
ثم إن أحد أخطر أدوات التفكيك هو التلاعب بالتاريخ والأرشيف، واقتطاع وقائع جزئية وبناؤها كحقيقة شاملة. الأرشيف الاستعماري نفسه كتب بعين الهيمنة، وكثير منه خضع للانتقاء والحذف والتوجيه، ما يجعل الاعتماد عليه دون نقد منهجي خطأ معرفيا. الأب لا يُدان بالابن، والابن لا يُدان بالأب
الانتماء البيولوجي أو العائلي لا يحدّد الموقف الوطني.
الدول لا تفكّك ولا تبنى على أصول الأمهات أو الآباء، وإنما على: السياسات، القرارات، التموضع الجيو-سياسي والمصالح الاقتصادية.
لماذا يوجّه المسؤول الفرنسي المتواطئ فرحات مهني نحو الدعوة إلى تقسيم الجزائر؟
ولماذا لا يطرحه بدوره على الدولة الفرنسية التي تصدّر هذا الخطاب، فيما تُحاط الأرض الفرنسية بمنطق الوحدة والسيادة، ولا ترضى أن تقسّم أرضها إلى دويلات؟
أيّ عقل سياسي ومنطق سلطوي يبيح تشظية أوطان الآخرين، ويقدّس وحدة ترابه حين يتعلّق الأمر بفرنسا؟
الولايات المتحدة، مثلا، تضمّ أعراقا وطوائف وثقافات مختلفة، لكنها: تمتلك عقدا سياسيا جامعا، وتحمي وحدة أرضها بالقانون والدستور وتعتبر الانفصال تهديدا لترابها، وليس خيارا سياسيا محبذا
هناك أطراف أخرى تعمل على تحريض المجتمعات على تقسيم أوطانها حين تدرك الضعف الداخلي لشعوبها، لأن الدولة المنقسمة أسهل في الاختراق والسيطرة. والتجارب الإقليمية القريبة تظهر هذا النمط بوضوح: حين تفكّكت العديد من الدول، تحوّل الصراع من مواجهة خارجية إلى نزاعات داخلية، أنهكتها وأضعفت قدرتها على حماية مواردها وسيادتها. في حالات مثل السودان وسوريا، لم يؤدّ التفكيك إلى الاستقرار، بل إلى دول متناحرة داخل الدولة الواحدة، تتصارع على السلطة والموارد، بينما المستفيد الحقيقي يبقى خارج الحدود. بعض الحركات أو الكيانات المسلّحة التي رفعت في هذه السياقات كشعارات تحرير أو حقوق، انتهى بها الأمر إلى الارتباط بمشاريع خارجية، وظهرت رموز وتحالفات تكشف حجم التوظيف السياسي والذي من وراءه إسرائيل.
مصلحة إسرائيل تتجه نحو تفكيك الدولة القادرة على إدارة مواردها، لصالح كيانات هشّة متفرّقة، يسهل إخضاعها لمسارات تفاوض غير متكافئة، ويغدو انتزاع ما في باطن أرضها فعلا مشروعا تحت مسمّيات الشراكة أو الحماية أو الدعم.
تدّعي حركة استقلال القبائل "الماك" أنها تتحدّث باسم الأقلية القبائلية، التي تعرب عن إحباطها بسبب جهود الحكومة الجزائرية لاستيعاب الأقليّات العرقية الأمازيغية المتبقية في الأغلبية الأمازيغية المستعربة والعرب والتي ترفع العلم الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع العلم الحالي. ما تريده إسرائيل من الجزائر هو مدوّن في توراتهم ويعني الحصول على ما فيها والذي تعتبره مجهولا لدى الشعب الجزائري.
الأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، أقام مشروعه على وحدة الأرض، ورفض منطق التفكيك، ورسم معالم الدولة وحدودها باعتبارها ترابا جامعا لا يقبل التجزئة. فكرة الجزائر لديه رقعة لا تقبل التقسيم، وإنما وطنا يصان بالروح والدم.
هذا الذي يدعى فرحات مهني، هل استشار مؤسس الدولة عن فكرة التقسيم، أو أخذ برأي الشهداء الذين قدّموا أرواحهم من أجل وحدة الجزائر؟
الجواب واضح هو لاء، لم يستفتي أحدا. في مسار التاريخ: مشروع التقسيم كان مرفوضا برمّته، وسيظل مرفوضا، لأنه يناقض جوهر الكفاح الوطني.
من يملك حقّ تقرير مصير الأرض؟ هل هو من حمل السلاح دفاعا عنها، ومن قدّم روحه في سبيل استقلالها؟ أم هذا الذي يتكلّم باسمها من خارج ترابها دون تفويض شعبي جامع؟ وكيف يعطي لنفسه هذا الحق؟
إن أيّ مبادرة تقوم على تقسيم الدولة تمثّل بداية تفكيك البنية الوطنية، وفتح الباب أمام صراعات طائفية لا سقف لها. فالتقسيم سيتجاوز الحدود الجغرافية، ويطلق سلسلة مطالب متلاحقة، سرعان ما تتحوّل إلى تناحر داخلي بين الجهات والمناطق: شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، حيث تصبح الأرض موضوع نزاع بدل أن تكون إطارا جامعا. ويحوّلها إلى مساحة مفتوحة للتنافس الخارجي للتحكّم في الأرض وإعادة رسم النفوذ، خصوصا حين تكون غنيّة بالموارد الطبيعية أو ذات موقع استراتيجي.
إذا استولوا على الأرض، سيقيمون عليها مقدساتهم، إذ يعتبرونها ثاني أرض مقدسة بعد فلسطين، ويهدفون لتمهيد الطريق لدخولها، كما ذكرنا في كتاب المتنور: سيّد النظام العالمي الجديد.
المشكلة أن هذه الحركات التي تعمل في الخفاء، عبر منظمات سرّية وأياد خفيّة تسعى إلى إتلاف البلاد، كما تقوم بنخر الدولة من الداخل. وهي تستغلّ الأزمات والمشاكل الداخلية، ما يسهّل عليها إشعال فوضى داخلية تفرض على الشعب كأمر واقع. والحلّ يكمن في القضاء على الأزمات الداخلية، وتوفير احتياجات الشعب، ومحاسبة الفاسدين، حتى لا يجد هؤلاء منفذا للدخول من هذا الباب.
هل سيقبل شعبها الأصيل بذلك؟ لا، بالتأكيد ستشهد البلاد صراعا؛ فالذين يحافظون على الأرض يثبتون لأن الأصالة تتفوّق دائما على الفزع. وسيؤدي هذا المسار إلى منع تقسيم البلاد.
التفرقة بين المواطنين هي ما يمكّن عدوّهم منهم، لأنهم لا يحبّون بعضهم بعضا. فمثلا، في أمريكا أو بعض الشعوب الأوروبية، تمنح تراخيص حمل السلاح للمواطنين، ومع ذلك نادرا ما نسمع عن اقتتال داخلي واسع. ولو افترضنا أن الحكومة الجزائرية رخّصت السلاح لشعبها هناك، لقتل بعضهم بعضا؛ وهذه هي الثغرة الحقيقية. إنهم غير متحابّين وغير متّحدين، ومن يريد احتلالهم يستغلّ هذه النقاط بالذات.
لماذا تركت الصحراء دون إنجازات أو مشاريع، حتى يكرهها الشعب ويزهد فيها، باعتبارها مجرد رمال لا شيء فيها؟
غير أن بعض الشباب أثبتوا عكس ذلك، وأظهروا إمكانية استخراج المياه، وزراعة الأشجار، وأن الصحراء قادرة على الإنتاج والإثمار. ومن هنا، على الحكومة أن توجّه أنظارها إلى الصحراء، وتعيد تطبيق مشاريع التشجير التي كانت سابقا، مع إنجاز المشاريع التنموية اللازمة. فالحل يكمن في ترسيخ مفهوم أهمية الصحراء لدى الشعب ثم توطينها، حتى لا تبقى عرضة للأطماع الخارجية على أرض الجزائر.
يعود فرحات عباس القديم مجددا بنفس تفكير فرحات مهني، الذي قال: فرنسا هي أنا.
فرحات مهني كان عليه أن يطالب بإعادة جماجم الشهداء الثوار وليس تقسيم أرض الجزائر. من الواضح وجود دعوة للاندماج مع فرنسا وعلى السلطات الجزائرية، أن تطالب بتسليم فرحات مهني، وإيداعه السجن، كما حدث مع صنصال الخائن.


تعليقات
إرسال تعليق